الثلاثاء، 2 أبريل 2013

أين كـــانوا في عــهد الاستبداد ؟ الأستاذ الجامعي : عبد الرحمن ولد سيد ولد حمود


لقد ارتفعت في الأيام الأخير نبرة الخطاب السياسي فاتسم بالنرفزة وحتى الوقاحة أحيانا فلم يعد يتعرض بالتحليل الرصين لأوضاع البلد، مشيرا إلى مواضيع الخلل فيها مقدما العلاج الأنسب بل انزلق إلى مداحيض الإطراب، وشخصنة الأمور والجرأة على الوقوع في الأعراض وعدم الاكتراث بهيبة من تخوله منزلته التقدير والاحترام . ومما يدعو إلى الاستغراب أن هذا التصعيد الكلامي يأتي في وقت تتحرك فيه كل مكونات الطيف السياسي نحو التقارب والتشاور من أجل الوصول إلى صيغة جامعة استعدادا لخوض غمار الاستحقاقات الوشيكة والتي هي في الحقيقة الاختبار الفاصل الكفيل وحده بقياس صدقيه ومصداقية أطروحات كل السياسيين ومدى تجاوب الشعب معها . ألم يكن من الأنسب أن نستقبل هذه المرحلة بخطاب أكثر أريحية وانفتاح ، إن المستوى الذي هبط إليه الجدل السياسي يسد فرصة المشاركة أمام كل من لا يحسن أساليب الهجاء المقذع أو المديح المفرط و ما كنت لأساهم فيه لو لم تتوالى علي المكالمات من شخصيات عديدة في مقطع لحجار مطالبة بإسماع صوت أكثر تلاءما مع ما يكنونه من مشاعر التقدير والامتنان لرئيس وحكومة حرصا على إخراج مدينتهم من وضعية كارثية ظلت تقبع فيها عقدين من الزمن . وبدون أن أتعرض للأشخاص في خصوصياتهم ومسلكياتهم ومساراتهم السياسية وما طبعها من مواقف غريبة ومريبة سأتوقف عند عبارات تكرر الحديث عنها على السنة المتحدثين ، وترامى بها الخصوم السياسيون وجدّوا في البحث عن تفاصيل مضامينها إنها كلمات الاستبداد والفساد . إن الاستبداد هو ببساطة .الحكم الفردي والتسلط وغياب دولة القانون والمؤسسات، إن هذا النوع من الأحكام ساد زمنا طويلا في إفريقيا وأخذت منه موريتانيا النصيب الأوفر . إن قادة الرأي الحاليين ، وفي صفوف المعارضة بصفة خاصة ، هم من الجيل الذي واكب الإستقلال واحتل مراكز قيادية في الأحكام التي تعاقبت منذو ذلك التاريخ ومازال يسكن العديد منهم الحنين إلى ذلك العهد الذهبي إنهم أصبحوا اليوم مع مرور الزمن يميلون إلى تجميله  ووصفه بالمثالي ،إن هذا العهد بالرغم مما أصبح يحاك حوله اليوم من حكايات التمجيد هو عهد الحزب الواحد والنواب المعينين من طرف وزارة الداخلية والذين يتم التصويت عليهم من خلال لائحة فريدة لا منافس لها . إن أول حديث عن الديمقراطية جاء بوحي من الأسياد الغربيين على لسان "فرانسوا ميتراه"  في خطاب "لا بول" الشهير مما أجبر الحكومة أنذاك على مواكبة التيار وتنظيم انتخابات نيابية وبلدية ديمقراطية في ظاهرها ولكنها في جوهرها معلومة النتائج مسبقا لما اتسمت به من تزوير ممنهج في ظروف تتميز بسيطرة حزب الدول وانعدام حالة مدنية غير قابلة للتزوير، إن الكثير من الذين يضيقون اليوم ذرعا بالإستبداد ويعمرون كل المنابر منددين به وملاحقين أدق تجلياته هم من الخدام المخلصين لذلك النظام البوليسى المستبد . إنهم لم يسايروه فحسب ولكنهم أبرعوا في استخدام كل آلياته الخفية لتحقيق أحلامهم السياسية . ومما لا مراء فيه أن تلك الحقبة السياسية تميزت بسيطرة ثلة من المفسدين سخرت لها إمكانيات الدولة فعاثت فيها فسادا لا تكبح جماحها رقابة رقيب ولا خشية رادع ، وكان همّ المتحكمين آنذاك تكديس الثروة واستغلالها للحفاظ على السلطة . وقد حرصت هذه "الأوليغرشية" على وضع صماصرة لها في كل أنحاء الوطن لكسب موالاة الشعوب تحت سلطان الرشوة، فانتشرت الزبونية والنميمة والوشاية وتصدعت أركان المنظومة الخلقية التي هي ضمان بقاء الأمم : ((إنما الامم الأخلاق ما بقيت : فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .)) هذا باختصار شديد ما كانت عليه البلاد من قبل فأين نحن منه الآن ؟ لن أحاول رسم لوحة مشرقة عن حاضرنا إلا أنني لن أحجم عن الإشادة بماجدّ من تحسن في مجال الديمقراطية والترشيد لموارد الدولة . إن البلد ينعم اليوم بجو من الحرية لم يعرفه قط . فالأحزاب السياسية ترخص بدون تمييز وتمارس أنشطتها بكل حرية دون أن تتعرض لمضايقة بالرغم من ما يتسم به خطابها أحيانا من تحد وإثارة تتنافى مع ما تسمح به النظم والقوانين . فالسجون خالية تماما من سجناء الرأي وقد تكون هذه الدرجة العالية من التسامح هي التي تفسر الجرأة التي بدأت تلاحظ اليوم في خطاب من كانوا يتخذون من موالاة الأنظمة أيا كانت طبيعتها عقيدة وطلسما يحققون به مآربهم . فلولا الحرية والتسامح ما تأتي للبراغيث أن يستنسروا . إن من واجب السياسيين ان يقتصدوا في استغلال هذا الفضاء من الحرية كما على السلطات العليا ان تظل متأسية كما كانت بقول الشاعر : يصول على الجاهلون وأعتلي    ويعجم في القائلون وأعرب
وفي مجال الإعلام تعرف البلاد اليوم طفرة أثارت إعجاب كل المراقبين: فالصحف الحرة والمواقع تعد بالعشرات ولاتتلقى من طرف السلطة إلا الدعم  المادي والتشجيع المعنوى ؛ والقنوات الحرة فاتحة أبوابها أمام كل السياسيين لتعميم خطابهم والقيام بحملاتهم التحسيسية لا يحدهم في تصاريحهم إلا روح المسؤولية والوازع المهني عند من يتوفر لديهم . إن توفر هذه الحريات لا أحد ينكره والمعارضة نفسها تعترف به ولكنها تعلق عليه قائلة : ((الكثير من الحرية يقتل الحرية )) !  ما ذا يعنيه هذا الشعار؟ هل هو دعوة إلى العودة إلى الوراء وإلى أساليب التضيق والمراقبة  ؟ أما الكامرات فتتجول بحرية في الأزقة بحثا عن مكامن الخبر مفضلة التركيز على ما توفر من مظاهر البؤس والظلم ، فيا ترى أين هو الإستبداد ؟ أما في مجال التسيير فلا أحد ينكر التحسن الكبير الذي حصل في هذه السنوات . فاختلاس أموال الدولة أصبح جريمة تعمل الهيئات المختصة على الكشف عنها وإنزال العقوبة بأصحابها . وفي هذا المجال تتعاون الدولة بجد مع الصحافة والسلطة التشريعية لتسليط الضوء على الفضائح المالية وإخضاع المسؤولين عنها للتحقيق . أما ميزانية الدولة التي ظلت طيلة العهود السابقة ميزانية تسيير وعاجزة عن ضمان أدنى حد من التسيير فقد أصبحت اليوم ميزانية استثمار تساهم بفعالية في انجاز مشاريع توفير الماء والكهرباء ومراكز الدراسة والإستطباب للمواطنين من دون حيف ولا إقصاء . وقد بدأت تظهر نتائج حسن التسيير وعدالة توزيع الموارد فتراجع حجم الثروة المجموعة بطرق غير شرعية وتقلصت الهوة بين الطبقات، تلك الهوة التي كادت تهدد السلم الاجتماعي لما وصلت إليه من اتساع في العهد السابق. إن اعداء النظام أنفسهم يعترفون بأن مستوى انتشار الفساد قد تراجع بشكل ملحوظ ولكنهم يضيفون أنه تمركز في نطاق ضيق . أما ءان لهم ان يقدموا على هذه الادعاءات براهين يركن إليها ؟ مهما قيل فإن البلاد تشهد حركة تعمير نشطة ودءوبة تطال كل أنحاء الوطن وكل مناحي الحياة فلا الصخب ولا الشغب قادران على تغطية  هذه الحقيقة . لقد أردت من خلال هذه المقرانة السريعة والناقصة جدا أن أقول للمشنعين والناقمين أن يسيروا على رسلهم وأن لا يغيب عن أذهانهم أن البلاد قد عرفت على أيديهم ما هو أدهى وأمر . أردت أيضا ان أقول أن الخطاب المندد بالإستبداد والفساد قد يغتفر إذا كان صادرا من ممثلي أحزاب ظلت ترفض التواطؤ   مع الأنظمة المستبدة ولكنه حين يرد على ألسنة المفسدين وزبنائهم يصبح خلعا لجلباب الحياء وقديما قيل : ((إذا ذهب الحياء حل البلاء )).  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق